مناضل بحذاء فلاح| ماذا تعني خسارة موخيكا “رئيس الفقراء”؟ 

“مات المناضل المثال”، هكذا أنشد الشيخ إمام بكلمات أحمد فؤاد نجم زمن الهزيمة بعد اغتيال تشي جيفارا”، ليُرثيان ليس رجلاً بل رمزاً. واليوم لو كانا أحياء كانا سيرددان الكلمات نفسها، ولكن لرثاء مناضل آخر، “موخيكا مات”. 

خوسيه ألبرتو موخيكا كوردانو، الرئيس الأسبق لدولة الأوروغواي، توفي عن عمر ناهز 89 عاماً، بعد مسيرة امتدت من العمل الفلاحي إلى قيادة الدولة، ومن الكفاح المسلح إلى حكمة العجائز. وبينهما، عاش حياةً كانت هي بذاتها إعلاناً سياسيًا دائمًا: “العالم يمكن أن يكون أكثر عدالة… إذا رفضنا أن نكون عبيدًا للاستهلاك، ولرأس المال، وللخوف”. 

من الكفاح المسلح إلى للسجن والتعذيب بتهمة “الوطن” 

ولد موخيكا في 20 مايو 1935، وسط أسرة ريفية متواضعة في الأوروغواي. في الستينيات، التحق بحركة “توباماروس” الثورية، وهي منظمة يسارية مسلّحة سعت إلى مقاومة الفقر والاستغلال والديكتاتورية في أمريكا اللاتينية. شارك في عمليات نوعية لنهب البنوك وتوزيع المال على الفقراء، وفي خطف رجال أعمال ومسؤولين – لا طمعًا في السلطة، بل احتجاجًا على انسداد الأفق السياسي. 

لكن الدولة لم تغفر له. أُلقي القبض عليه ست مرات، وتعرّض للتعذيب، وسُجن أكثر من 14 عامًا، ستة منها في عزلة تامة داخل زنزانة بالكاد تدخلها الشمس. “كنت أتحدث مع الضفادع لأحافظ على عقلي”، هكذا وصف تلك السنوات لاحقًا. 

من الثورة إلى الحكم 

خرج موخيكا من السجن مع بداية التحول الديمقراطي في الأوروغواي، لكنه لم يبدّل مبادئه. ترك السلاح، والتحق بالعمل السياسي المدني، وانتُخب نائبًا، ثم وزيرًا، وأخيرًا رئيسًا للبلاد عام 2010. 

لكن الغريب في تجربته أنه لم يتغير… كان الرئيس الوحيد في العالم الذي عاش في مزرعة متواضعة، وقاد سيارة “فولكس فاغن” قديمة، وتبرّع بمعظم راتبه للفقراء. رفض السكن في القصر الرئاسي. زوجته، لوسيا توبولانسكي، مناضلة مثله، وكانت عضوًا في البرلمان، وكانت مزرعتهما الصغيرة تديرها سويًا. 

 فلسفة الزهد… ومواجهة الرأسمالية 

لم يكن الزهد عند موخيكا مجرد مظهر، بل فلسفة حياة. انتقد “العبودية الحديثة” التي تجعل الإنسان يعمل عمره ليشتري أشياء لا يحتاجها. تحدث في الأمم المتحدة عن “الفقر المختار”، وعن أن العدالة تبدأ من رفض الجشع، وأن الدولة يجب أن تُدار كبيت متواضع يحفظ كرامة الجميع. 

خلال رئاسته، شرّع الإجهاض، وزواج المثليين، وقنن الحشيش، ودعم الزراعة المستدامة، والتعليم المجاني، وواجه الشركات متعددة الجنسيات بشراسة. لكنه لم يكن شيوعيًا على الطريقة الكلاسيكية، بل إنسانيًا على طريقة جديدة: الدولة يجب أن تكون بسيطة… وأن تخدم من لا صوت لهم. 

 لماذا يهمنا نحن في العالم العربي أن نرثيه؟ 

لأن موخيكا يطرح أسئلة جوهرية على مجتمعات تعاني من القهر الطبقي والسياسي، وتُحكم بعصا النيوليبرالية أو قبضة السلطة. أثبت أن الزعيم يمكن أن يكون متواضعًا دون أن يُحتقر، وأن السلطة يمكن أن تكون وسيلة لا غاية. 

موخيكا لم يغنّ للثورة، بل عاشها، وظلّ مخلصًا لها حتى وهو يترأس الدولة، وفي عالم تُقاس فيه قيمة الإنسان بعدد متابعيه أو حجم ثروته، كان موخيكا استثناءً يذكّرنا أن الأخلاق السياسية ممكنة. 

موخيكا وجيفارا… أخوان من ضوء واحد 

كما جيفارا، لم تكن سيرة موخيكا سيرة فرد، بل سيرة جيل حلم بأن تكون أمريكا اللاتينية حرة من الاستعمار، ومن التبعية، ومن الاستغلال. وإن كان جيفارا مات على يد الـ”سي آي إيه” في غابات بوليفيا، فموخيكا مات على فراشه في أرضه، لكن كلاهما سيُدفن في قلب شعوبٍ ما زالت تحلم. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *