حسن البربري يكتب: ترامب وريجان.. من النيوليبرالية إلى حكم الشركات الكبرى

عندما ننظر إلى دونالد ترامب ورونالد ريجان، من السهل أن نقع في فخ التركيز على الأسلوب أو الشخصية أو الفوارق الظرفية التي تفصل بين الثمانينيات وعقد ما بعد 2016. لكن التحليل الأعمق يكشف عن خيط فكري وسياسي متصل بين الرئيسين. فما بدأه ريجان من تحرير الأسواق وتفكيك الدولة الاجتماعية، طوّره ترامب إلى مستوى جديد من سيطرة الشركات الكبرى على الحكم، لا من خلف الستار فحسب، بل من داخل مؤسسات الحكم نفسها.
لقد صعد ريجان إلى السلطة في لحظة مفصلية من تاريخ الرأسمالية الغربية، متأثرًا بأفكار ميلتون فريدمان ومدرسة شيكاغو، ليقود هجومًا واسعًا على دولة الرفاه، ويطلق العنان للسوق كقوة شبه مطلقة. من خلال تقليص الضرائب، وتفكيك القيود التنظيمية، وخصخصة الخدمات، وضع ريجان الأسس الصلبة لاقتصاد نيوليبرالي يخدم الشركات متعددة الجنسيات على حساب الطبقة العاملة. لكن رغم ذلك، ظل هناك هامش للمؤسسات الديمقراطية والبيروقراطية المستقلة في إدارة الدولة.
مع ترامب، تغير هذا الهامش. فقد مثلت رئاسته لحظة انتقالية من “دولة تعمل لصالح الشركات” إلى “شركات تحكم الدولة”. لم تعد الشركات الكبرى بحاجة إلى اللوبيات أو الضغط من الخارج، بل أصبحت تدير مفاصل الحكم من الداخل. يكفي أن نذكر كيف امتلأت إدارة ترامب برجال أعمال ومدراء تنفيذيين من شركات كبرى مثل إكسون موبيل، وجولدمان ساكس، وأمازون. بل إن ترامب نفسه جاء من عالم المال والعقارات، متبنيًا عقيدة السوق الحرة بوصفها دينًا سياسيًا.
تجلت هذه السيطرة في السياسات الاقتصادية التي تبناها ترامب، خاصة قانون الإصلاح الضريبي لعام 2017، الذي خفض ضرائب الشركات من 35% إلى 21%. هذا القرار لم يكن مجرد سياسة اقتصادية، بل إعلان رسمي بأن الأولوية القصوى أصبحت لأرباح الشركات، حتى لو كان ذلك على حساب الخدمات العامة، أو العدالة الاجتماعية. أما في ملف البيئة، فقد انسحب ترامب من اتفاقية باريس، وألغى عشرات التشريعات البيئية التي كانت تحد من انبعاثات الشركات النفطية والبتروكيميائية، في خدمة مباشرة لكارتلات الطاقة.
بالمقارنة، كان ريجان أكثر حرصًا على تقديم هذه السياسات في إطار سردية أيديولوجية: “الحرية الفردية”، “الاعتماد على الذات”، “القيم الأمريكية”. بينما لم يُجهد ترامب نفسه بإخفاء الغاية الحقيقية، بل جعل من الولاء لقطاع الأعمال معيارًا للنجاح السياسي. حتى وزراؤه وكبار موظفيه كانوا غالبًا من رجال الأعمال الأثرياء، في مشهد أقرب إلى شركة خاصة تحكم دولة.
من زاوية السياسة الخارجية، فإن ريجان اعتمد على مواجهة الاتحاد السوفييتي وسباق التسلح لإعادة تأكيد الهيمنة الأمريكية، وهو ما أفاد شركات السلاح ومجموعة الصناعات العسكرية. لكن ترامب نقل هذه العلاقة إلى مستوى عضوي، حيث تم الترويج لمبيعات الأسلحة كأداة دبلوماسية بحد ذاتها، خصوصًا في الشرق الأوسط. وبات تصدير الأسلحة لا يحركه فقط التوازن الجيوسياسي، بل اعتبارات الربح المباشر للشركات الأمريكية.
لا يتوقف الأمر هنا. في عهد ترامب، تحولت الدولة إلى منصة تعظيم للثروات الخاصة. وزارة التعليم مثلًا، تحت إدارة بيتسي ديفوس، شجعت على خصخصة التعليم العام ودعمت المدارس الخاصة المملوكة لكبريات الشركات التعليمية. أما وزارة الصحة، فكانت أقرب إلى لوبي صناعة الأدوية منها إلى جهة تنظيمية مستقلة. في كل وزارة، كان هناك تداخل واضح بين المصالح الخاصة ومهام الدولة.
حتى السياسة التجارية لم تكن سوى أداة لحماية مصالح رأس المال الأمريكي في مواجهة الصين، التي تم تصويرها كعدو اقتصادي. الحرب التجارية التي أطلقها ترامب لم تكن مدفوعة بحماية الصناعة الوطنية فحسب، بل كانت انعكاسًا لمخاوف الشركات الأمريكية من فقدان السيطرة على الأسواق العالمية والتكنولوجيا المستقبلية. فمن خلال فرض الرسوم الجمركية والعقوبات، حاول ترامب إجبار الصين على التراجع في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي والتصنيع المتقدم، وهي مجالات تمثل مستقبل السيطرة الرأسمالية.
ريجان مهّد الطريق لنظام اقتصادي جديد يعتمد على الشركات الكبرى كقاطرة للنمو، لكنه احتفظ بهياكل الدولة التقليدية، واحترام معين للقانون والمؤسسات. أما ترامب، فقد دخل في صراع مباشر مع المؤسسات، من الإعلام إلى القضاء، وحتى البيروقراطية الفيدرالية، لأنه أراد حكمًا رأسيًا مباشرًا يخدم “بيزنس الدولة” وليس “خدمة العامة”. ولذا فإن ترامب لم يكن مجرد وريث لريغان، بل يمثل ذروة منطق الريغانية: السوق هو السيد الوحيد.
في النهاية، لا يمكن فهم تجربة ترامب دون الرجوع إلى إرث ريجان. لكن الفارق الجوهري أن ريغان حافظ على القشرة الديمقراطية، بينما لم يتردد ترامب في تمزيقها إذا تعارضت مع مصالح رأس المال. هذا هو التحول الذي يعكسه حكم الشركات اليوم: من سلطة تعمل لها الدولة، إلى دولة تعمل لحسابها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *