علي سعيد يكتب: عيد والدوري.. محاولة لتفسير وتثوير العقلية الأهلاوية
علي سعيد
يستطيع عيد الآن أن يبتسم، أن يضحك ملء شدقيه، أن يتصور أنه قادر، أخيرا، على أن يفرح لمدة خمس دقائق، ولو مرة كل سنة، وأنه، في مواجهة كل هزائمه اليومية، قادر على أن ينتصر، ولو على عدو وهمي هو فريق كرة قدم منافس، يطيب له ربما في هذه اللحظة بالتحديد أن يسميه “فريق البوابين”، دون أن يشعر ولو لثانية واحدة أنه ينتقي أسوأ الألفاظ العنصرية من قاموس “بذاءات المصريين”، رغم أنه يتعرض، كل يوم خلال عمله كسايس في أحد شوارع وسط البلد، لأسوأ ألفاظ نفس هذا القاموس.
ولأن الليلة عيد، يستطيع عيد الأهلاوي، الذي يقضي يومه كاملا من الثامنة صباحا حتى الثامنة مساء في الشارع باحثا عن 200 أو 300 جنيه يعينوه على مصاريف الزوجة والأولاد، أن يتصور نفسه شريكا في الانتصار العظيم، لإمام عاشور وقفشة ووسام أبو علي وعمرو ربيعة وحسين الشحات بل وحتى لمحمود الخطيب، رغم أنه لم يشاركهم يوما، ولن يشاركهم أبدا، ولا “فتفوتة” من المكسب الضخم أو الغنائم “المتلتلة”، التي تستحيل أولا بأول لفيلات وقصور ونفوذ وساعات وسبائك ذهبية ورصيد بنكي ضخم بأرقام سداسية وأحيانا سباعية.
يستطيع عيد أن يفرح، كما يشتهي، خمس دقائق على الأقل في كل عام، لم لا وقد أخذت الدولة منه كل شيء تقريبا، أخذت منه ومن أبنائه التعليم والعلاج المجاني والوظيفة المحترمة والاحترام كمواطن والتوقير كرجل مكافح والدخل المحترم كشغيل، كما أنها تستعد حاليا بقانون “الإيجار القديم” لأخذ حتى الشقة اليتيمة التي ورثها عن أبيه في أقصى أقاصي بهتيم، لكنها تركت له كنزه الأثير، كنزه الذي لا يقدر بثمن، تركت له الدرع.. تركت له الدوري.
عيد الأهلاوي، كما كل أهلاوي، يعشق الأغلبية ويكره الأقليات، أي أقليات، ويستعيذ بالله أن يكون منها، إذ يرى أن الطفل المصري يولد على الفطرة مسلما في بلد مسلم وأهلاويا في وطن أهلاوي، أو هكذا يعتقد، لكن أبويه بعد ذلك ينصرانه أو يزملكانه.
عيد الأهلاوي يتماهى في الحشود، ويتألق وسط الجموع، ففيها يفرغ كل طاقاته، إيجابية كانت أو سلبية، حتى كراهيته للنظام، يفرغها مع الجماهير لحظة الاحتشاد، وينتهي منها أو قُل يقوم منها، في لحظة خاطفة، بعد أو أثناء المباراة، وكأنه في لحظة انتشاء شعبي وأورجازم وطني وجماهيري، فالأهلي هو البسمة الوحيدة لعيد الأهلاوي، ومعانقة الدوري، كل عام وأي عام، هو المصدر الوحيد لشعوره بالاستقرار، وهو المعنى الوحيد لتحققه، والتجلي الأبرز لإنجازه.
الدوري هو بوصلة أحلام عيد الأهلاوي، يليه بعد ذلك بكثير كأس الأمم الأفريقية، وأي بطولات قارية أو دولية، فهو مكمن السعادة إذا تراءى وأقبل ومنشأ الحزن ومسبب الاكتئاب إذا تناءى وولى.
عيد الأهلاوي يلوذ بالدوري وسط كل السخام، ويتحجج به وسط كل الشرور التي تحيق به وبوطنه، ويحتضنه كهدية سماوية وسط كل الموبقات، ويستعصم به وسط كل الاضطرابات الحياتية والتحولات المعيشية.
إن الدوري هو المضاد الوحيد للاكتئاب، ليس فقط لدى عيد بل ولدى كل هذه الفئة من مواطنينا، ولن أقول مشجعينا، لأن الأمر تجاوز عندهم حدود التشجيع إلى إطار التماهي، سواء على الصعيد الشخصي أو الوطني، فحتى انتصارات المنتخب القومي تتضاءل، في أعين هؤلاء، أمام الفوز بالدوري واحتضان الدرع.
عيد الأهلاوي دجمائي، وهو قامع أو مقموع، فالقول الفصل بالنسبة له هو ما يقوله رئيس النادي، والحق كل الحق هو ما تروجه قناته الفضائية، وما يتداوله إعلاميوه هو الصح الوحيد.
عيد الأهلاوي قصوي وأحادي الطابع، فإمام عاشور يتبدى له كلاعب سافل ومنحط، حينما يتسافل بفانلة الفريق المنافس، وهو “روحي.. روحي” و”معذور.. معذور”، حينما يتسافل بفانلة أعظم نادي في الكون، وزيزو لاعب “كسر” ونصف موهوب، حتى عندما يسجل أعظم الأهداف بفانلة الأعداء، وهو بعد ذلك معجزة كروية حينما يوقع للأحمر، ويرفع شعار النازية الكروية المصرية “الأهلي فوق الجميع”، ويتنكر لبياض قلبه وتاريخه الحافل مع فريق البسطاء أو قُل حتى “البوابين”.
عيد الأهلاوي لا يهتم بآلام أحد، ولا يسمع لشكاوى الآخرين، ولا يعير أذنه لأبسط طموحات “الناس التانيين”، كأن تحقق الدولة العدالة الرياضية بين كل الفرق، وتعمل أجهزتها الرياضية بمبدأ تكافؤ الفرص بين كل الأندية، وينتهي زمن الكيل بمكيالين، وحتى عندما يدعوه المنافسون إلى لحظة تعقل، ويفردون أمامه كل معطيات المنطق وبديهيات مفرداته، فإن عيد يدعو ناديه، ويفر إلى جماهيره، ويتمترس في كلام الأغلبية، ويتدرع بأكاذيبها، ولا يرى في كلمات الآخرين سوى كلمات الأعداء والزبانية، ساخرا من منطق “المظلومية التاريخية”، باعتبارها صنما من أصنام يعبدها الأعداء التاريخيون، تقربا إلى الدوري زلفى.
يميل عيد الأهلاوي، بحكم تركيبته إلى شيطنة الآخرين، فلا يرى في الزمالك فنًا ولا هندسةً ولا ناديًا رفع رأس مصر والمصريين في كل المحافل الرياضية، ذلك أن رفع رأس مصر منوط، وبصفة حصرية، بأيدي أو بالأحرى بأقدام لاعبي الأحمر، الذين يجب الدفاع عنهم مهما تمادوا في السفالة، وتجاوزوا في التصرفات، وتماهوا مع أردأ الأخلاقيات، وكل ذلك يهون من أجل نادي المبادئ، حتى لو تأكد له في كل لحظة أن هذه المبادئ، هي نفسها لم تعد هناك، على الأقل منذ وفاة رجل المبادئ بحق صالح سليم. عيد الأهلاوي لا يرى بين أعضاء نادي الزمالك “تمًا”، سوى فساد وسلاطة لسان مرتضى منصور، أو هكذا يصفونه، ولا يرى في بيراميدز سوى أموال الإمارات وتعالي دول الخليج.
لكن هل يمكن أن يثور عيد الأهلاوي الوديع؟
عيد أهلاوي وديع، ولحظات فورانه قليلة، إن لم تكن نادرة، وساعات راديكاليته محدودة، فهو يغضب بالكاد حينما تخفض الحكومة الحوافز وتعصف بالرواتب ويكتفي برفع يده ومظلمته لرب السماء عندما ترفع سعر الزيت والسكر وتشعل نيران البنزين، لكنه يستشيط غضبا إذا مست ناديه وهددت قبيلته.
رغم أن عيد الأهلاوي الوديع هو وديعة الدولة، من أيام مبارك ومن قبله، ورغم أنه الرصيد الطوعي لاستقرار كل مؤسسات الدولة وسرية اليد، التي يقاتل أو حتى يخاتل ويناور بها كل زعيم ورئيس، إلا أنه قابل، مع ذلك وبرغمه، للتثوير، شريطة أن تكون كرة اللهب الثوري في أيدي أو بالأحرى في أقدام الأغلبية لا الأقلية، فعيد، كما كل أهلاوي، باحث عن الكثرة ومنذور للأغلبية العددية، لا يحيد عن توجهاتها قيد أنملة، وهو يبحث عن نفسه بين ظهرانيها، ولا يجد ذاته إلا في تفوقها، ولا يرى وجوده إلا في سيطرتها، فهو “غلباوي” أو بالأحرى “أغلباوي”، يحتقر الأقلية، أي أقلية، ويكره الزملكاوية كراهيته للكلاب المسعورة والصهاينة والبهائيين والمسيحيين.
وحال عيد هو ذاته حال “ألتراس أهلاوي”، الذي هو كالإخوان سواءً بسواء، لم تطأ أقدامه، كتنظيم كروي ورياضي، الميدان، إلا بعد 28 يناير في جمعة الغضب، ولم يتمطى بصلبه، كمفردة ثورية وجملة راديكالية زاعقة، إلا بعدما تأكد الجميع أن الجماهير افترشت الميدان، والثوار ملأوا الشوارع، وأجراس الثورة تقرع في كل مكان، وإرادة التغيير لا محالة منتصرة.
إذا أردتم تثوير عيد الأهلاوي، ومعه كل أهلاوي، اقنعوه أن الجماهير محتشدة، الآن الآن، وليس غدا، وأن الرغبة في التغيير اجتاحت، فعلا لا قولا، مخيلة أغلبية المواطنين، وأن الثورة باتت عنوانا رئيسيا مطبوعا على غلاف كل كتاب ومحفورا على أديم كل باب.
عيد، ككل عشاق الأهلي، ابن أكبر حزب في مصر، “حزب الكنبة”، لا يقوم من قعدته الأثيرة ورقدته المخملية إلا إذا قامت قيامته بالفعل، وأدرك أن المشهد العام سبقه والواقع تجاوزه، ولا يتحرك إلا إذا أيقن أن خطوته ستقرب ما بَعُد، وحركته ستعيد ترميم ما تهدم، وهو، فيما عدا ذلك، يتعامى عن كل قمع، ويتغافل عن أي تنكيل إلا إذا تعلق الأمر بناديه ودرعه ودوريه.
لا سبيل إلى تثوير عيد الأهلاوي إلا بإخراجه من الجيتو الخاص به، الذي لم يدخله بإرادته بل بتحفيز دولة ما بعد الاستقلال، التي فشلت في تحقيق كل أسباب وجودها من تنمية ومقرطة وعلمنة وتحديث، فاستبدلت التنمية الاقتصادية بتنمية روح التعصب للفانلة، واستبدلت قيم المواطنة بقيم القبيلة، فتراجع المصري من مواطن إلى مسلم، سني أو شيعي أو حتى بهائي، أو مسيحي، وتحول من ابن الدولة إلى ابن المسجد والكنيسة والنادي بل وحتى القبيلة، واستحال المشجع المحب للكرة إلى مجنون بالنادي ومهووس بالنجوم، في محاولة لطمس هوية الصراع الاجتماعي المحتدم والتعتيم على حقيقة المتصارعين في دولة البون الطبقي الهائل، الذي وصل حاليا إلى حد الأبارتايد الطبقي.
ومن هنا كان طبيعيا أن يصبح الزمالك، وإلى حد ما بيراميدز في الثلاث سنوات الأخيرة، هو عدو عيد ومعه الأغلبية الساحقة أو بالأحرى المسحوقة من المصريين، وأصبحت إزاحته أي الزمالك هي هاجس الجموع، والتغلب عليه، وأحيانا التندر على أعضائه وإدارته ولاعبيه بل وحتى لون مشجعيه، هو الشكل الصريح والمريح، الذي ترسخه أجهزة الدولة الأمنية والإعلامية، للصراع في وطن يتبدى متماسكا للناظر من بعيد، وهو يستحيل شيئا فشيئا إلى فسيفساء لونية يقودها الأحمر ويطبعها بطابعه الواضح وموج الكراهية الصريح.
إننا عندما نتحدث عن الأهلي فإننا لا نتحدث عن نادٍ بقدر ما نتحدث عن قبيلة، وهو ما تدركه جيدا أجهزة الدولة الرسمية، خصوصا الأمنية، فتحرص على أن يبيت كل أهلاوي، وبالتالي كل عيد، سعيدا باحتضان الدرع، حتى لو جردته كل يوم من شيء ما جديد، يأكله أو يشربه أو يستر به عريه، ومن ثم فالسبيل إلى تثوير المواطن الأهلاوي، لن يكون بانتزاعه من أهلاويته، بل بتجريد دولته من روح القبيلة، ومن ثم خلعه من الهوس بـ”الفانلة” إلى الإيمان بالوطن والدولة والمجتمع والناس.
إن تحرير الأهلاوي لا يكون إلا في إطار التحرر الإنساني للمواطن المصري عموما، وهو ما لن يتأتى بإلغاء الأهلي لكن بإلغاء الدولة بصفتها دولة القبيلة الأهلاوية، واستبدالها بدولة كل النوادي وكل الجماهير وكل المشجعين، تماما كما يكون تحرير الرأسمالي بتحريره من الملكية الخاصة، بعدما أصبح المال هو دين الرأسمالية ذاتها، ويكون تحرير اليهودي بتحريره من “شايلوكيته”، إن جاز التعبير، لا من يهوديته.
إن تحرير وتثوير الأهلاوي لن يكون بتحرير الشعب المصري من الأهلاوية، بل بتحرير الدولة المصرية من أهلاويتها وانحيازها الأعمى للأغلبية القبلية الأهلاوية، فالعلمنة مثلا لا تتحقق بتحرير الدولة من الدين أو من المتدينين بل بتحريرها من دين الدولة تحديدا، الأمر الذي لا يعني إلغاء الدولة بل إلغاء الدولة بصفتها دولة دينية، مع ضمان حرية المعتقد الديني، انطلاقاً من تأكيد مبدأ المواطنة.
إن تثوير الأهلاوي لن يتأتى باسترداده من أهلاويته أو من الجيتو الأهلاوي، بل باسترداده إلى وصفه الحقيقي كمواطن ضمن ملايين من المواطنين، يشجع بعضهم الأحمر والأبيض والأصفر والسماوي، وغير ذلك من ألوان، وترسيخ انتمائه الصحيح لوطن كامل محفوف بالمخاطر، ومحاط بكل أسباب الاضطراب والضياع ومعجون بماء الفساد والإفساد، الذي يرعاه في نفس واحد، وربما بنفس المنهج، عسكر الدولة وإخوان المجتمع، رغم ما قد يبدو بينهما من تناقض.