حسن البربري يكتب: من يدفع ثمن التشريعات المنفصلة عن العدالة الاجتماعية؟
في الوقت الذي يعاني فيه المواطن المصري من تآكل دخله بسبب التضخم، وارتفاع أسعار الغذاء والطاقة، والضبابية الاقتصادية، تظهر محاولات الدولة المتكررة لإعادة تشكيل العلاقة بين المالك والمستأجر من خلال تعديل قانون الإيجارات القديمة. ورغم أن النقاش حول القانون ظل لعقود منحصراً بين “حقوق المالك المهضومة” و”أمان المستأجر التاريخي”، فإن الأبعاد الأعمق للقضية تتعلق ببنية الأجور والمعاشات ومستويات الدخل في مصر، والتي تُعد منخفضة على نحو لا يسمح بتحمّل أي تكاليف إضافية، لا سيما في ملف حساس مثل السكن.
إن مشروع تعديل قانون الإيجارات القديمة لا يمكن فصله عن السياق الاقتصادي والاجتماعي الأشمل في مصر. فالحديث عن “تحرير العلاقة الإيجارية” لا يجب أن يُختزل في أرقام الإيجار وسعر المتر، بل يجب أن يُربط أولاً وأساساً بأجور الناس، ومعاشاتهم، وحقهم في السكن الآمن والمستقر. وأي تحرّك لتعديل قانون الإيجارات يجب أن يسبقه إصلاح حقيقي لمنظومة الأجور والحماية الاجتماعية، وإلا فإننا أمام تشريع يُعمّق الفجوة بين الطبقات، ويحوّل أزمة الإسكان من ملف اقتصادي إلى قنبلة اجتماعية قابلة للانفجار.
في بلد لا يزال فيه هذه المستويات منخفضة بشكل لا يسمح بتحمل أي أعباء إضافية، خاصة في ملف حيوي مثل السكن، فإن طرح مشروع لتعديل قانون الإيجارات القديمة دون مراعاة هذا السياق يصبح خطرًا، بل ومفجرًا لأزمات اجتماعية واقتصادية أعمق.
الحديث عن “تحرير العلاقة الإيجارية” لا يجب أن يُختزل في مجرد أرقام ومبالغ، بل يجب أن يُنظر إليه من خلال عدسة العدالة الاجتماعية، التي تبدأ من قدرة الناس على دفع مقابل سكنهم دون الإخلال بحاجاتهم الأساسية، ولذلك فإن أي تعديل في هذا القانون لا بد أن يسبقه تعديل حقيقي في منظومة الأجور والحماية الاجتماعية، إغفال هذا البعد يهدد بتحويل أزمة الإسكان من مجرد ملف اقتصادي إلى قنبلة اجتماعية قابلة للانفجار، خاصة إذا ظلت الفجوة تتسع بين ما يمكن للمواطن تحمله وما يُطلب منه دفعه.
وفي قراءة سريعة لواقع الأجور والمعاشات في مصر، تظهر أرقام تعكس عمق الأزمة، الحد الأدنى للأجور في القطاع الحكومي تم رفعه إلى 7000 جنيه، لكن هذا لا ينطبق على ملايين العاملين في القطاع الخاص وغير الرسمي، والذين يمثلون حوالي نصف قوة العمل. متوسط الرواتب الفعلية في قطاعات واسعة مثل الزراعة والصناعات الخفيفة والخدمات لا يتجاوز 3000 إلى 4000 جنيه شهريًا، في غياب أي آلية قانونية تربط الأجور بمعدل التضخم أو تضمن تنفيذ الحد الأدنى فعليًا.. أما بالنسبة للمعاشات، فالوضع أكثر قسوة، إذ لا تزال شريحة واسعة من أصحاب المعاشات تتقاضى مبالغ تقل عن 2000 جنيه شهريًا، بينما ارتفعت أسعار السلع والخدمات منذ 2016 بما يفوق 150%، دون أن تواكب المعاشات هذه الزيادات.
في هذا الإطار، يأتي مشروع قانون تعديل الإيجارات القديمة في وقت تُقدّر فيه معدلات الفقر بأكثر من 30% من السكان، في ظل تراجع برامج الدعم التمويني، وتحرير أسعار الطاقة، وتآكل برامج الحماية الاجتماعية مثل “تكافل وكرامة”، التي لم تعد كافية لتلبية الحد الأدنى من احتياجات الأسر الفقيرة.. ولهذا، فإن أي خطوة لرفع قيمة الإيجارات دون تحرك موازٍ لزيادة الأجور والمعاشات وتوسيع مظلة الدعم، لن تكون سوى عبء جديد على الفئات الأكثر هشاشة، وقد تؤدي إلى موجة نزوح سكني شبيهة بأزمات العشوائيات في التسعينيات، وربما أشد.
تجارب دولية عديدة تقدم نماذج بديلة أكثر توازنًا في التعامل مع ملف الإيجارات القديمة. ففي فرنسا مثلًا، تم الحفاظ على نظام الإيجارات الثابتة للمستأجرين القدامى، مع إقرار برنامج لتعويض الملاك المتضررين، وتقديم مساعدات مباشرة للمستأجرين محدودي الدخل.. وفي ألمانيا، تتدخل الدولة لضبط أسعار الإيجار بما يتناسب مع متوسط الأجور في كل مدينة، دون تحرير تعسفي للعقود. أما في المغرب وتونس، فقد ربطت الحكومات تعديل قوانين الإيجار بإعادة تقييم دخل الأسر، ووضعت فترات سماح تصل إلى 10 سنوات، مع تدخل الدولة لتسوية النزاعات وضمان التوازن بين الطرفين.
لكن في مصر، يبدو أن المنطق الحاكم لمشروع القانون الحالي يتعامل مع العقار باعتباره مجرد أصل اقتصادي يجب تعظيم عوائده، متجاهلًا أبعاده الاجتماعية، وحق الإنسان في السكن الآمن والمستقر. كما لا يوجد تصور شامل لربط السياسات السكنية بمنظومة الأجور والحماية الاجتماعية، ولا إدراك كافٍ للواقع الفعلي للمستأجرين الذين يعتمد كثير منهم على دخل ثابت وضعيف مثل المعاشات أو الحد الأدنى من الرواتب.
والسؤال هنا: هل القانون الحالي ينحاز فعليًا لصالح المالك فقط؟ من المؤكد أن بين الملاك أنفسهم فئات فقيرة ومتوسطة تعاني من تآكل القيمة الفعلية لعوائد الإيجار، لكن الحل العادل لا يكون بإفقار المستأجر لتمويل المالك، بل بإعادة توزيع الموارد بشكل متوازن، عبر دعم حكومي مباشر، أو تخفيضات ضريبية للملاك المتضررين، بدلًا من تحميل المستأجر وحده فاتورة التصحيح.
هناك بدائل كثيرة أكثر عدلًا وإنصافًا. أولها ربط أي تعديل قانوني بتحسين فعلي في الأجور والمعاشات، عبر حزمة تشريعية ترفع المعاشات الدنيا إلى ما لا يقل عن 6000 أو 7000 جنيه شهريًا، وربط الأجور بمؤشر الأسعار لضمان الحفاظ على القوة الشرائية. كما يمكن تقديم دعم نقدي مباشر للمستأجرين المتضررين، على غرار برامج “تكافل وكرامة”، وتخصيص موازنة مستقلة لدعم من يسكنون وحدات بالإيجار القديم ممن لا يتجاوز دخلهم مستوىً معينًا.
كذلك يمكن إنشاء صندوق لتعويض الملاك، يتم تمويله من ضرائب الثروة العقارية أو أرباح المشروعات العقارية الاستثمارية، بما يضمن تعويضًا عادلًا لمن تضرروا من النظام القديم. كما ينبغي تطبيق التعديل تدريجيًا على مدى زمني يتراوح من 7 إلى 10 سنوات، لتجنب إحداث صدمات اجتماعية تهدد استقرار ملايين المواطنين.. والأهم من كل ذلك هو فتح حوار مجتمعي حقيقي، تشارك فيه النقابات المهنية، وجمعيات الدفاع عن حقوق المستأجرين، والمنظمات الحقوقية، لضمان تشريع عادل لا يُكتب خلف الأبواب المغلقة، بل ينبع من واقع الناس واحتياجاتهم.
في النهاية، لا يمكن لأي إصلاح تشريعي أن يحقق العدالة إذا تجاهل السياق الاقتصادي والاجتماعي الأوسع. قضية الإيجارات القديمة ليست صراعًا بين مالك ومستأجر، بل مرآة تعكس واقعًا اجتماعيًا غير عادل يحتاج إلى مراجعة شاملة، تبدأ من وضع المواطن في مركز السياسات لا على هامشها.