طفل المسرح الأسطورة والمناضل ذو “الأرواح التسعة”.. زكريا زبيدي ملحمة 45 عاما في عشق فلسطين
عرب لطفي: زبيدي شارك أبطال عملية التحرر من جلبوع بعد 63 عاما من تحرر جده من السجن نفسه
كتب- محمود هاشم:
“شو ضل بجسمك؟ رصاصة برجلك، قذيفة هاون بوجهك، رصاصة براسك، رصاصة بصدرك، رصاصة ببطنك، رصاصة بإيدك، وقرنيات عيونك ما بشوفن، من شو ربنا خلقك يا زكريا؟”.
أيام عصيبة يقضيها زكريا زبيدي، 45 عاما، القائد السابق لكتائب شهداء الأقصى في جنين، وعضو المجلس الثوري لحركة فتح الفلسطينية، الذي أعيد اعتقاله مع محمود العارضة، ومحمد العارضة، ويعقوب قادري، من الأسرى الفلسطينيين الستة أصحاب ملحمة “نفق الحرية” في سجن جلبوع الإسرائيلي، تعذيب وضرب مبرح على أيدي عناصر المخابرات الإسرائيلية، إلا أن ما فعله ورفاقه حفر نفسه كعلامة بارزة من علامات النضال الوطني لأبناء الوطن المحتل.

نشر شقيقه جبريل زبيدي، صورة للقائد السابق لكتائب شهداء الأقصى، يظهر فيها انتفاخ كبير في وجهه، مما يشير إلى تعرضه للكمة قوية، بعد واقعة إعادة الاعتقال: “يتعرض أخي زكريا الآن لأقصى أنواع التعذيب، يضربونه بالكهرباء، وكسروا قدمه، ولا يعرف معنى النوم، يشبحونه على قدمه المكسورة، ويشتموه بالمسبات، ويحققون معه بطريقه وحشية لا تمت للإنسانية بصلة”.

نقل زكريا إلى مستشفى شعري هتسيدك بعد تعذيب مستمر، حسب ما روى جبريل، بينما أشارت روايات أخرى إلى نقله لمستشفى رامبار، إلا أن الشاهد الأبرز في الأمر أنه تعرض لإصابات خلال إعادة اعتقاله، حسبما نقلت وسائل إعلامية فلسطينية وإسرائيلية.
طالب نادي الأسير الفلسطيني بالكشف عن مصير زبيدي ورفاقه الثلاثة الذي أعيد اعتقالهم”، وقال المتحدث الإعلامي باسم نادي الأسير، عبد الله زغاري، إن “عدم ظهور زبيدي بشكل واضح في الفيديوهات المنقولة من المحكمة بعد إعادة اعتقاله ومنع المحامين من لقائه يؤكد مخاوفهم بشأن حقيقة وضعه الصحي”، وناشدت المنظمة المؤسسات الدولية المعنية بحقوق الإنسان التحرك العاجل في هذا الاتجاه.

تستحق قصة زبيدي – كما يرى كثيرون – أن تكون مادة دسمة لقصة ملحمية ربما تخلد لأجيال متعاقبة، تحكي المخرجة والكاتبة اللبنانية المصرية عرب لطفي، أنه في عام ١٩٥٨، حدثت معركة دموية بأحد سجون الاحتلال مع حراس السجن، سيطر الأسرى فيها على الغرف وقتلوا عدد من جنود الاحتلال وأستشهد ١١ أسيرا.

تمكن أكثر من ٦٠ أسيرا فلسطينيا وعربيا من الخروج من السجن، ومن بين هؤلاء كان “محمد جهجاه”، أبو سمير، هرب حاملا على أكتافه جريحين، وخرج بهما من السجن، كان لدى أبو سمير ابنة اسمها سميرة، كبرت وتزوجت وأصبح لديها أبناء كبروا وصاروا شبابا.

وفي عام ٢٠٠٢، استشهدت سميرة بمخيم جنين، كان لديها ابن شاب اسمه “زكريا”، حملها على الأكتاف ودفنها، كانت حياته عبارة عن مطاردات وثورة دائمة ما تتوقف، ثورة بكل تفاصيل حياته، وفي عام ٢٠١٩، اعتُقل زكريا، بقيت الثورة والمطاردة برأسه وبروحه وهو بالسجن، لا أحد يعلم ماذا يدور في رأسه ويخطط له.
وفي ٦ سبتمبر ٢٠٢١، ومن بعد ٦٣ سنة على حكاية أبو سمير، أصبحنا نعرف الآن من هو زكريا زبيدي، الذي تحرر من نفس السجن اللي خرج منه جده، بنفس الروح التي قاتلت وحملت جرحى، وبالروح اللي عاشت اليتم وعرفت معنى القتال والثورة والشهادة، محمد جهجاه، هو جد زكريا زبيدي لأمه.
في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينات، وخلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى، فتحت ناشطة حقوق الإنسان الإسرائيلية أرنا مر خميس، مسرحا للأطفال في جنين “بيت أرنا” لنشر ثقافة السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، حينها عرضت سميرة الطابق العلوي من منزلها من أجل البروفات، كان زكريا الذي يبلغ من العمر 12 عاما حينها وشقيقه الأكبر داود وأربعة فتيان آخرين في نفس العمر يشكلون جوهر الفرقة.

في 2002، استشهدت سميرة خلال غارة إسرائيلية ضمن الاقتحام الكبير جنين، كما استشهد شقيقه طه، في الهجوم ذاته، وقبلهما توفي والده الذي ساءت أوضاعه الصحية في أواخر حياته بعد التضييقات الإسرائيلية عليه لإدانته بعضوية حركة فتح، أصيب زكريا نفسه 7 مرات وتعرض لـ6 محاولات اغتيال فاشلة، وهدم الاحتلال بيته في مخيم جنين 3 مرات، وكان من أبرز أيقونات “أطفال الحجارة” خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وعلى إثر أعماله الفدائية تعرض للاعتقال أكثر من مرة في جميع مراحل حياته.
كان الطفل زكريا آنذاك – كمثله من أقرانه – يحلم أن يكون ممثلا مسرحيا بعد إعجابه بتجربة “بيت أرنا”، إلا أن الجرائم الإسرائيلية المتتالية دفعته إلى الانضمام كتائب شهداء الأقصى الجناح المسلح لحركة فتح، الذي شكل بأوامر من الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.
عاد ابن أرنا الممثل الإسرائيلي جوليانو مير خميس إلى جنين في عام 2002، وبحث عن الأولاد الذين كانوا في مجموعة المسرح، وجد المسرح ذاته تعرض للهدم من جراء الغارات الإسرائيلية، وتحول زبيدي إلى المقاومة المسلحة، وحكم على داود بالسجن لمدة 16 عاما بسبب أنشطته المسلحة، بينما استشهد الأربعة الآخرون، في عام 2004 أنجز مير خميس فيلما وثائقيا عن المجموعة “أولاد أرنا”، وكان وجه زبيدي مشوها قليلا بسبب إصابته بشظايا قنبلة، تعرض جوليانو للاغتيال في جنين في عام 2011، إلا أن فيلمه كان شاهدا على ثورة ثقافية فلسطينية أجهضتها دبابات وقاذفات الاحتلال.
أتم زكريا دراسته في مدارس الأونروا بمخيم ومدينة جنين، وحصل على البكالوريوس في الخدمة الاجتماعية من جامعة القدس المفتوحة، ومن ثم التحق ببرنامج الماجستير في الدراسات العربية المعاصرة في جامعة بيرزيت، حيث تقدم بمقترح لرسالة ماجستير، تم إقراره وتسجيل الرسالة بتاريخ 17 سبتبمبر 2018، وعنوانها، بالعربية: “الصياد والتنين: المطاردة في التجربة الفلسطينية من 1968-2018″، لكن قوات الاحتلال اعتقلته في 28 فبراير 2019، قبل نقاش الرسالة، التي تجري مراجعتها مع كاتبها، عبر عائلته ومحاميه، بحكم وجوده في الأسر.
تصور رسالة زبيدي مطاردات عناصر الاحتلال للفلسطينيين على مدار، حيث تقمّص فيها شخصية “التنين” الذي يتغلب على “الصياد” بعد مطاردة شاقة وطويلة، استوحاها من الأساطير القديمة، قبل أن يجسدها في الواقع في ملحمة “نفق الحرية”.
لم يكن اعتقال زبيدي سهلا على قوات الاحتلال في كل مرة يتم القبض عليه فيها، فقد وصفه الضابط السابق في “الشاباك”، يتسحاق إيلان، بأنه “قطّ شوارع”، مضيفا: “لطالما حاولنا الإمساك به، لكنه أفلت من أيدينا، والآن أعيد اعتقاله”، بينما يصفه الإعلام العبري بأنه “شخص بتسعة أرواح”، و”الحاكم الفعلي لجنين”، كونه أحد أبرز وجود النضال المسلح في فلسطين.
في 2007، ترك الشاب الفلسطيني الأسمر السلاح وقرر أن يعطي فرصة للعمل السياسي، لاسيما بعد وفاة عرفات، وقرار الرئيس الجديد آنذاك محمود عباس، حل كتائب “شهداء الأقصى”، صدر بعدها قرار بالعفو عن زبيدي ورفاقه، قبل أن يتراجع عنه الاحتلال بعدها بأربع سنوات، كان جينها تفرّغ للعمل المسرحي، وقال في مقابلة تليفزيونية «إنه وأطفال المخيم يرسلون رسالة محبة وسلام، ويطالبون المجتمع الدولي عبر الفن بحمايتهم من الجرائم التي يرتكبها الاحتلال»، رغم ذلك لم يسلم من المطاردات والأسر.
بعد أيام من تحرره، عثر على زبيدي ومحمد العارضة في قرية أم الغانم العربية على بعد نحو 30 كيلومترا عن مكان سجن جلبوع، في عملية مطاردة كبيرة استخدم فيها الاحتلال طائرات مروحية ومسيرة وعناصر من القوات الخاصة، وتعزيزات عسكرية، إلا أن قصته بطولته ورفاقه ستظل ملحمة يتوارثها أجيال النضال والمقاومة في طريقهم لانتفاضة جديدة.