د. حنان طنطاوي تكتب: أبانا الذي في الضوء
(تدوينة عن انطفاء الُحرقة، واشتعال الضوء؛ في لحظة تناول فيها محمد أبو الغيط وأحمد خالد توفيق كنافة محشية بالبسبوسة)
أبكي منذ أيام بُحرقة، لا أعرف إن كانت كلمة ” ُحرقة” هي عربية صحيحة أو أنها في الأصل كلمة دارجة، لكنها بالتأكيد كلمة فصيحة؛ فهي تفصح بحق عن كمدي الممتزج بصهد السخط!
اعترف أني لا أتقبل خبر وفاة د. محمد أبو الغيط، أكتب هذا وأستغفر الله في سري وجهري؛ أعلم أن الإيمان الحق يقتضي الرضا دون اعتراض على حكمة الله وقضائه، وأن لا نقول إلا ما يرضي ربنا:” لله ما أخذ ولله ما أعطى، إنا لله وإنا إليه راجعون”.
أحاول. لكني لا أستطيع التنكر لغضبي؛ أتساءل: لماذا؟! لماذا يتجرأ المرض والموت على زهرة شبابنا؟! لماذا فقد د.محمد أبو الغيط وعيه قبل أن يرى احتفاء قرائه بكتابه الأول “أنا قادم أيها الضوء”.
لماذا رحل دون أن يتسنى له الوجود بيننا –في مصر- وملامسة كل تلك المحبة، كما قال في كلمته المصورة التي ظهر فيها قبل أيام من مغادرته، قالها ثم ابتسم، تلك الابتسامة التي خدعتني بما فيها من نور ونبض وحياة. استطاعت أن تغطي بودها وجمالها على قسوة عظام وجنتيه البارزتين، وتمكنت بحضورها وسطوعها من هزيمة الأنبوب المتطفل الذي ظهر مصاح ًبا له، ومحت ًلا بع ًضا من ممراته الهوائية!
ربما كانت هي ذاتها ال ُحرقة التي تلهب قلبي وأنا أتابع زهرات فلسطين تُدهس يوم ًيا ببيادة احتلال؛ لا يتوانى عن ممارسة كل أشكال العنصرية والانتهاك والقتل، حتى وصل لقتل المراسلين الصحفيين أمام كاميراتهم! وقصف البيوت السكنية بالصواريخ أمام عيون العالم! ذات الغصة، وذات التساؤل، نعم، لكن التجسيد الواضح لملامح العدو، واستقلال قراره وإرادته في الظلم والسلب والاعتداء؛ ذلك التفنيد لطرفي المعركة، مع من أقف وضد من أحارب، يقلل الألم خاصة عندما يمتزج بالفخر بأسود فلسطينية؛ يزأرون أعمارهم في وجه ذلك الاحتلال؛ يقهرون الموت، ويربكون العدو، ويتموه الوجع قلي ًلا، تماما كما تُشوش زغايد أمهاتهم على عويل القلب!
فديت ال ِعظام الثايرة ع المخابئ..
تحكيعن ِعظام…فيهمسربارئ
ي َوصف ال ُمعافى ويرادف الخالق
ِعظام وبارزين ف عيونا أشهاد
ع اللحم الل حا ِرق.. نسيجه وجع
ع الصامد المناضل.. إلل ِمنه اتبدَع وطن وقايم.. بعظام الجدع محاوطاه بتحميه.. كما الأكباد
نظمت هذه الخاطرة القصيرة في مطلع سبتمبر؛ تغن ًيا بانتصار الأسير المحرر خليل عواودة بعد
إضراب كامل عن الطعام لمدة 172 يوم، تحدى فيهم جيش الاحتلال وأجبره على تحريره بجسده الهزيل، وعظمة عظامه البارزين!
نعم، كما كنت أقول: عدو واضح، ومعركة واضحة.
بعد هذا التاريخ بشهر تقري ًبا يدون محمد أبو الغيط على صفحته: (كل يوم حين أذهب للنوم، أكتشف أني لا أستطيع بسبب آلام احتكاك عظام ركبتاي. أصبحت نحيفاً جداً وركبتي عظمية بارزة. أحل المشكلة بوضع وسادة أو لحاف أو ما شابه. بعد كل هذه الشهور لم أعتد على جسدي الجديد. كل يوم نفس المفاجأة في نفس الموعد. كل يوم.)
كانت هذه الفقرة ُمترخة ب 28 يونيو 2022 ومكتوبة ضمن تدوينة طويلة؛ يتأمل فيها محمد أبو الغيط سؤال الألم.
أتساءل الآن بدوري: لماذا ينقلب علينا الجسد الذي يمكننا حينًا أن نحارب وننتصربه، فيكون هو ذاته عد ًوا لنا، وتكون هزيمة خلاياه الخبيثة، هي هزيمتنا؟!
لالا.. لا أتساءل.. بل أبكي ب ُحرقة.
كنت قد عنونت خاطرتي القصيرة تلك عن خليل عواودة ب “أغنيتي عن معجزة”. رأيتها معجزة للإرادة. إرادة الامتناع وهي تنتصر على تجبرالانتهاك والاعتداء!
في تدوينته المنشورة يوم 29 نوفمبر، استهلها محمد أبو الغيط بمقطع مقتبس عن الحب للإمام ابن حزم الأندلسي، ثم أردف يؤرخ: (: 30 أكتوبر 2022
( يتكور جسدي على السرير بينما أكتم صرخات الألم.
أقر وأعترف أني أتعذب لارتكابي جريمة خطيرة: الأكل.)
عنون محمد أبو الغيط هذه التدوينة ب:”وردتي البيضاء الخارقة” واستعاد فيها بين صرخات
الألم، أجمل وأعظم محطات الغرس والنمو لوردته الخارقة! يتحدث في أولها عن تحسن جزئي مكنه من الاحتفال بعيد ميلاده مع أسرته، بيد أن مشاركة طفيفة لهم في الطعام، حكمت عليه بالعودة للحبس الإجباري في المستشفى!
لا أعرف إن كانت مجرد صدفة أو ربما كان تقاط ًعا قدَر ًيا يدعونا للتأمل؛ أنه في نفس الوقت
تقري ًبا الذي دون فيه محمد أبو الغيط ُجرم الأكل، كان علاء عبد الفتاح يكتب في خطابه لعائلته
معلنًا تصعيد إضرابه الجزئي عن الطعام -البادئ منذ شهور- ليصبح إضرابا كل ًيا مع بداية نوفمبر، ثم يتطور لإضراب كلي عن المياه بد ًءا من يوم 6 نوفمبر. فتقوم الدنيا على ساق
واحدة، وعلاء عبد الفتاح الجالس في محبسه في زاوية مظلمة، ربما، أو حتى مضاءة –
إجبار ًيا- بلا انقطاع، بسبب المراقبة بالكاميرات، لا أعرف، لكن ما أعرفه أنه استطاع أن
يستحوذ على مئات العناوين في المقالات في الصحف المحلية والعالمية، وأن يوجه عيون الكاميرات على أختيه منى سيف وسناء سيف، واستطاع أن يلهم الآلاف للتضامن معه، وكلف آلافًا آخرين مجهود الاشتباك معه والاعتراض عليه، كما استطاع أن يحفز عددًا كبي ًرا من الكوادر في العمل الحزبي والصحفي للإضراب الجزئي عن الطعام تضامنًا معه ومع معتقلي الرأي من الصحفيين وغيرهم! كنت أتابع بمزيج من الفخر والغبطة أخبار إضراب منى سليم، ورشا عزب، وإيمان عوف عن الطعام، واعتصامهن في نقابة الصحفييين، وبيناتهن القوية للنقابة اللاتي يطالبن فيها بحقوق الصحافة الحرة، وتضامن معها عدد كبير من الصحفيين والصحفيات. تجمدت الإضرابات عن الطعام، وتوقف الاعتصام، واجتمع يوم 3 ديسمبر ممثلو الحكة المدنية الديمقراطية، في توالى للمطالبات وإمهال للأمنيات. أحداث جديرة باستئثارمقالات أخرى غير بكائيتي هذه التي أحاول فيها التعافي بالكتابة، عملا بنصيحة عالم النفس “جيمس بيكر” الذي نصح طلابه بالكتابة عن صدماتهم لمدة خمسة عشر دقيقة متواصلة يوم ًيا، ولاحظ بعد أشهر تحسن صحتهم البدنية
لازلت أبكي وأكتب بحروف باهتة وأفكار سائلة.. أراجع ما كتبته، فأتذكرفقرة كتبها محمد أبو الغيط في تقديم كتاب “شبح الربيع” لعلاء عبد الفتاح:
(هو علاء غير العادي.. يؤكد تمسكه بالديمقراطية، لكنه يطرح فكرة أن لها حقاً خصوصية في بلاد الجنوب النامية، ليست خصوصية عدم تأهل الشعب كما تروج أصوات سلطوية، لكنها خصوصية بدء الديمقراطية، بخلاف بلاد ترسخت فيها، ومن أهم شروطها الاتفاق على “أجندة
والنفسية!
وطنية” موحدة تجمع عليها كل الأطراف، ولا تتغير بالانتخابات.
يقول إننا أخطأنا حين “أهملنا تثبيت الديمقراطية وترسيخ دولة القانون في المؤسسات والمجتمع
تابعت قراءة ما كتبته، فوصلت لاسم منى سليم، وما تلاه عن الكتابة والتعافي، خطر على بالي الآن ما قرأته على صفحتها قبل يوم واحد من وداع محمد أبو الغيط: ( ظني بالله إنه يشمل #محمد_أبو_الغيط دو ًما بمحبة ورحمة كبيرة… لأنه إنسان في كل اللحظات لا يصل لك منه، سواء كنت على معرفة مباشرة به أو دون أي معرفة، غير رقة الواثق ولين المتمكن وخفة ..صاحب الأثر.
لا أعرف من أين استمدت منى سليم يقينها؟ ولست متأكدة مما تعنيه ب”كلامه عن هذه المرحلة”، لكني أعلم أني كنت على يقين أي ًضا بحدوث معجزة ما، وعندما أقرأ مشاركات
الحر”، فتسرعنا في الصدام”.)
محمد وصل مع مرض السرطان لمرحلة الغيبوبة، أتمني له ما يرتضيه الله له، وعندي يقين أني
سأقرأ كلامه عن تلك المرحلة ذاتها يو ًما ما في مكا ٍن ما..)
المئات على صفحة محمد أبو الغيط منذ أعلن عن مرضه وحتى اللحظة الأخيرة، أجد أننا جمي ًعا
كنا ننتظر المعجزة! ولم نكن نصدق أن تكون هذه هي النهاية!
تذكرت الآن ما كتبه واقتبسه محمد أبو الغيط في تدوينته “سؤال الألم”: (قرأت كتاب “معضلة الألم” للكاتب الأيرلندي كليف لويس (سي إس لويس) حيث يناقش القضية من منظوره، كشخص غادر إيمانه المسيحي ثم عاد له. يقول مثلا: “للوهلة الأولى، تبدو قوانين الطبيعة الثابتة التي لا تأبه بمعاناة الإنسان أو كفاءته، والتي لا توقفها الصلاة، كأنَّها تق ِدم ُح َّجةً ضدَّ َصلا ِح الله أو قُد َر ِت ِه. وأقو ُل إنَّه حتَّى “القُدرة ً الك ِل َّية” لا تستطيع أن تخل َق مجتم ًعا من النفوس ال ُح َّرة دون أن تخلق في الوقت نفسه طبيعة ما ِد َّيةً ثابتةً و ُمستقلَّةً نسب ًّيا”. أي أن حرية الإنسان، وامتلاكه العقل والاختيار، مشروطة بوجوده في الدنيا ذات القوانين
المادية التي لا يخرقها الإله لصناعة وضع مثالي دائم.
“يمكننا ر َّبما أن نتخ َّي َل عال ًما يعمل الله فيه باستمراُر على تصحيح الأخطاء التي ترتكبها مخلوقاته بسبب الإرادة الح َّرة، بحيث تصير قطعة الخشب ل ِينة عندما تُستخدم ل َض ْرب إنسان، وصلبةً عندما تُستخدَم في البناء. وعندما أحاول أن أستخدم الهواء لنَ ْقل موجات صوت َّية تحمل كذ ًبا أو إهانة، فإنَّه لا يتجاو ُب معي. لك ْن سيصب ُح مثل هذا العالم عال ًما يكون الخطأ فيه ُمستحي ًلا، وفيه تكون فكرة الإرادة الح َّرة خاليةً من المعنى” لذلك يؤكد: “لا يمتلك الله قدرةً أكث َر من أيِ مخلوق أن يجم َع ما بين شيئين ْ ُمتناق َضين تناقُ ًضا جوهر ًّيا؛ ليس لأ َّن قدرتَه توا ِجهُ عائقًا، بل لأ َّن ال ُهرا َء يظ ُّل هُرا ًء حتَّى لو قُلناه عن الله”
يجيب: “حقيقة أ َّن الله يستطيع أن يُع ِدل سلوك المادَّة ويقوم بذلك فع ًلا في بعض الأحيان، ما
يُس َّمى بالمعجزة، فإ َّن هذا جز ٌء لا يتج َّزأ من الإيمان المسيحي، لك َّن الفكرة القائلة بضرورة
والمعجزة؟
ا ِتساق العالم والمادَّة وثباتهما تتطلَّب أن تكون هذه المعجزات بالغةَ الندرة.”) تحدد الأهلة هذه الاقتباسات المتعمقة وتضع لها نهاية لغوية، لكنها تفتح أقواس أخرى على
استفهامات حقيقية! إذاكانت المعجزة واردة، وحتى لو اقترن وجودها بندرتها، ألم يكن محمد أبو
نشر محمد أبو الغيط “سؤال الألم” يوم 3 أكتوبر ليُلحقه في شهر نوفمبر بتدونتين نُشرتا على
أجزاء أيام 12 و13 و29 و30 نوفمبر، يكتب فيهما عن شمسه وقمره وكواكبه (أبيه وأمه وأخوته) وعن وردته الخارقة العظيمة زوجته (إسراء). يكتب لهم وعنهم ويبعثر يوميات الألم بين يومياتهم وفضائلهم وقدراتهم الخارقة ؛ فيكتب عن قدرة والده د.أبو الغيط على تخفيف الألم ويصفه قائلا: ( والدي هو أيضاً “السيد حامل المصباح”، قديس يخفف الآلام بإيمان حقيقي برسالته)
ويكمل ابن أبو الغيط هام ًسا لأبيه وعنه: ( أشعر بأنه يتلذذ حقا وهو يشرح كلمات البيت، ثم ينتقل لديوان الشافعي ويتغنى من أبياته المفضلة
دَعِ الأَيا َم تَف َع ُل ما تَشا ُء .. َو ِطب نَفساً إِذا َح َك َم القَضا ُء َولا تَج َزع ِلحا ِدثَ ِة اللَيالي .. فَما ِل َحوا ِد ِث الدُنيا َبقا ُء)
ويكتب عن قدرة أمه التي وصفها بالملاك؛ السيدة إلهام المل ِهمة والمل َهمة: ( وهكذا للمفارقة
كانت أمي العاطفية المثالية هي نفسها منبعا لتعليمي كثيراً عن الفصل الصارم بين العواطف
الغيط أولى بهذه المعجزة؟! أكرر: أنا لا أسأل.. أنا فقط أبكي بحرقة!
والمعايير الموضوعية، وكم أفادني هذا بكل أصعدة حياتي.
لكن شيئاً واحداً لم تنجح في غرسه في، وهو قدراتها الخاصة على الدعاء بيقين الإجابة. كلما ضاقت بي الدنيا وانقطعت الأسباب، وشكوت إليها، تقول لي أن وجودي كاملاً جاء على يد دعوة منها، فلا مستحيل أمام دعاء يدفع القدر. ترفض أمي الدعاء المتوارث “اللهم إني لا أسألك رد القضاء، ولكني أسألك اللطف فيه”، لأنه يتناقض مع أحاديث نبوية تقول أن الدعاء يغير القضاء.
دائما تكرر أن الدعاء والقدر يتدافعان، كأنها معركة، وأمي هي المقاتلة الأولى بصف جيش
الدعاء ضد قدر مكتوب يحتاج تغييره تلك اللمسة المعجزة.
كثيراً ما حاولت يا أمي حتى في أشد فترات حياتي تديناً، لكن من يملك قلباً كقلبك؟
حين أفكر فيها استحضر صورة ثابتة: أمي ساجدة تبكي وهي تتحدث مع الله، تطلب شيئاً أو تشكره على شيء.)
تلك اللمسة المعجزة! ترى هل لامس القدر المعجزة؟ أسأل حقًا هذه المرة، صحيح أني لازلت أبكي بحرقة، لكني أستطيع الآن البحث عن إجابة..
يوم 3 أغسطس 2022 نشر محمد أبو الغيط تدوينة “العازف ذو البذلة الحمراء” يقارن فيها بين حكم المرض الغادر وتفوق قسوته على حكم الإعدام الغاشم! يسرد تفاصيل حالته، وتطور
الورم، وفشل العلاج في أحد مراحله، والنضال من أجل الاستئناف في مراحل أخرى، ووسط
كل هذا يُنشرخبر التحقيق الذي شارك فيه و”زلزل السودان زلزالا” عن تورط شركات روسية في تهريب الذهب من السودان! ثم يكمل المقارنات بمناظرة حاله بحال عازفي سفينة “تيتانك”، ويؤكد ضمن نفس المنشور:
(متأثراً بدفعة التفاؤل والتحسن عدت للتفكير أني يجب على التركيز في مشروع كتاب أجمع فيه كتاباتي عن المرض، بعد توسيعها لشؤون عامة أيضا تتناول السياسات الصحية وغيرها. وأريد نشره بأقرب وقت في حياتي، لا أن يُجمع بعد موتي، كما حدث لكتاب “سأكون بين اللوز” الذي
جمع كتابات الكاتب الفلسطيني حسين البرغوثي أثناء مرضه بالسرطان. لكني لا أعرف لو سأفعل هذا فعلا. لو سيسمح جسدي، وستسمح نفسي، وسيسمح عمري قبلهما.).
سلم محمد أبو الغيط الفصل الأخير من كتابه “أنا قادم أيها الضوء” يوم 30 نوفمبر بشهادة صديقه الكاتب أحمد سمير ومن ساعده في تحرير الكتاب. أي قبل ساعات من غياب الوعي!
لا زلت أسأل: لماذا؟! أتذكر الآن أن سيرة حسين البرغوثي -الشاعر والمفكر الفلسطيني الذي عانى أي ًضا من
السرطان- وردت في مواضع أخرى من كتابة محمد أبو الغيط، مثلا؛ عندما اقتبس منه في نهاية
“شي ٌء في الجبل كان يقول لي، كلما حدقت في الزيتون والأودية المقمرة: حتى ولو بقيت لك
نصه الرائع “أبنائي الخضر” : (كتب حسين البرغوثي:
سنتان للعيش، فإن سنتين هنا أعمق من قرنين هناك..
كنت واقفا أمام الشباك، مطلا على الحرش، والصنوبر واللوز، وخطر ببالي أن بترا، زوجتي،
ستنهار إن انهرت، قاوم، لا لأجلك، قاوم.”
“وشعرتبأنالجبليهتفبي:قللها، مهماحدث،إنزرِتني،سأكونبيناللوز!ستكون
شمس، ويكون نوار يتطاير في الهواء، وتكون جنائن، ويكون نحل وطريق نحل. وحتى يأتي ذلك الوقت، قاوم”)
تذكرت أني قرأت لحسين البرغوثي مقط ًعا آخر: (الدقة ليست الحقيقة وأنا أقول : لا تطلبوا مني لا الدقة ولا تذكر الزمن هنا .. فالزمن لكل من يمتلك معرفة مرتبة عن متى حدث هذا الحدث أو ذاك ؟ لا أدري .. أعني عندما أتأمل ذاكرتي فإن الأشياء تحدث بعد بعضها في تسلسل زمني ما ولكن هذا التسلسل ملف محفوظ في الذاكرة .. لكن القلب له ترتيب آخر .. فالقلب يرتب أثاثه حسب مدى أهمية أي حدث بالنسبة إليه ضارباً بعرض الحائط كل نظام الزمن السائد..”)
فلاحظت أن محمد أبو الغيط كان يكتب بدقة، ويفند التواريخ والأيام، وأسماء الأدوية، والتشخيص، ويشرح عمل الأدوية، وأفكار التجارب العلاجية، لكنه برغم كل ذلك يحافظ على أولوية القلب! فيقول: (الحب عدو الألم.
أحيانا أذهب وحيداً لجلسات العلاج وأحيانا ترافقني إسراء. في كل مرة تمسك بيدي بينما أتلقى الطعنة في الجانب الأيمن من صدري أشعر بأن الألم أقل. الألم يقل حقيقة لا مجازاً والله!
والرحمة عدوة الألم. ولم أ َر وسيلة أفضل لتوليد الرحمة من أن يحاول كل منا فهم آلام الآخر، أن يضع نفسه مكانه.)
لازال محمد أبو الغيط قاد ًرا –برغم دقة المعلومات والتواريخ- على تشويقنا، وحملنا على التساؤل والشغف ونحن نقرأ ذكرياته، ويومياته.
أذكر كيف نبض قلبي وأنا أقرأ قصة حبه لرفيقة عمره وزوجته، كيف بدأت، وكيف اختمرت، بينما تساعده هي بقوتها وتفهمها، وييسر عليه حماه دكتور السيد حسن شهاب كل متطلبات الزواج.
لازال محمد أبو الغيط قاد ًرا –رغم الرصد والتحديد- على تخطي ألمه وتقمص ألم زوجته وحبيبته؛ وهو يناشد الجميع في منشوره الذي كتبه يوم 8 يوليو 2022: ( أرجو منكم جميعاً، بحق من كان لي عنده لحظة ود، أن يساعدنا في ألا تُفجع إسراء في زوجها ووالدها ووالدتها (توفيت قبل عامين بالسرطان أيضا).
أماكن كثيرة خالية على مائدة عيدها، فليعد لها واحد على الأقل).
.
لا زال بإمكاننا –رغم تفاصيل التجارب العلاجية- سماع محمد أبو الغيط وهو يترنم بأغنية
“شاي بلبن”التي كتبها لنا وهو يتحدث عن إسرائه وعن حبهما وتوحدهما، فيقول:
(أربع إيدين، أربع شفايف على الفطار، وشاى بلبن
أربع إيدين، وأربع شفايف على الفطار يبوسوا بعض ويحضنوا نور النهار بين صدرها وصدره وبين البسمتين بيحضنوا الحب اللى جامعهم سوا على الفطار ويحضنوا الشمس اللى بتهز الستار وتخش من بين الخيوط وبعضها مع الهوا في الأوضة ترسم نفسها على أرضها على البساط اللى اشتروه مع الجهاز
من غير تمن، وع الإزاز ويشربوا الشاى باللبن فى فنجانين بيصحو ا قلبى كل ليلة فى المنام وبيكتبوا بلون منور فزدقى على الهوا الأسود وع الجفن اللى نام بيكتبوا بلون منور فزدقى كلمة: سلام من أغنية شاي بلبن – كلمات الشاعر صلاح جاهين – غناء يسرا الهواري (والتي كانت سابقا عضوة بفرقة الطمي) اعتبرناها إسراء وأنا الأغنية المعبرة عن حياتنا ولطالما تشاركنا غنائها.)
بالطبع لا أقصد المقارنة بين كتابة حسين البرغوثي ومحمد أبو الغيط فلا أملك ما يؤهلني لذلك. أنا فقط أستكمل بحثي عن إجابة؛ أين هي تلك اللمسة المعجزة ال ُمست َحقة؟ أين السبيل لكي تقل ال ُحرقة في بكائي؟!
على الغرام اللى اشتروه
فأتذكر: أن محمد أبوالغيط الذي يشرح تداعيات المرض ومضاعافاته بتفاصيل قد يأنف غيره عن كتابتها. قد تحمل بجسارة برودة الكشف، وما يشيعه عنا من وهن، وتخلى عن فقاعة التكتم وسترها الكاذب. صحيح أنه لم يفقد ولا لحظة دقته أوموضوعيته في تحليل المعلومات والاحتمالات، لكنه لم يفقد معها أيضا سعيه المتواصل وتمسكه بكل أمل وفرصة ممكنة –بل وطلب الدعاء له بمعجزة الشفاء- حتى آخر لحظة!
المعجزة! .. ربما كانت هذه هي المعجزة، يتمم أبو الغيط المهمة، يسلم الفصل الأخير من كتابه
ملبيا نداء الضوء، غار ًسا ذرته اللامعة لتنشطر فينا صيحته: (محمد أبو الغيط مر من هنا)
لا أقرأ فعل المرور هنا بمعناه الدال على التأقيت والانتهاء، بل أقرأ ما فيه من عبور واجتياز
وتجاوز. وكأنه انتهى من هنا، ولم ينته هنا منه!
مر أبو الغيط من هنا بعد أن نازل الألم، وأنهكه، وكشف لثامه، وهشم درعه، وهدم حصنه، فانتصر لضعفه وتأوهاته، بشرحها، وتمحيصها، وبقوة حبيبته وسندها، فكان الخارق يؤرخ لبذل خارقة! يقول عن إسرائه المضيئة : (عبر سنوات علاقتنا انبعثت إسراء أخرى، إسراء ذات جوهر أصلب وأقوى. بتلات وردة بيضاء رقيقة حقا لكنها ليست هشة، بل تزداد تماسكا كلما تعمقت بطبقاتها. بلورات بالغة الشفافية حقا، لكنها لا تنكسر أبداً، بل تنافس أغلظ ألواح الزجاج المضاد للرصاص!).
إذا كان الألم قد استباح جسد محمد أبو الغيط، فقد ردها له الصاع صاعين عندما كتب عنه بدقة
الاستقصائي ورقة الأديب، إذا كان الألم قد َجرأ عليه مشارط الجراحين، فقد شرحه أبو الغيط بسن قلمه. حاكم أبو الغيط الألم في محكمة عادلة، لم ينكر عليه حق الدفاع، ولم يقصر في الادعاء عليه بتساؤلاته وتأملاته. نظر في وجهه القاسي، ونقل لنا ملامحه بصدق ورحمة، نقلها وهو يعلمنا معاني الصمود والحب والشراكة، معاني الانتصار للحق، للأمل في القدرة على التغيير، حتى لو كان تغيي ًرا ممكنًا، يعلمنا معانى التراحم والتعاطف مع آلام الآخرين دون تفريط في موضوعيتنا ومبادئنا، نقلها وهو يعلمنا قيمة كل يوم في حياتنا نحياه بصحة مع من .نحب. يعلمنا معنى الله؛ (لا يوجد ما قبل الله، لأنه هو الأول بلا بداية و هو الآخر بلا نهاية).
يحملنا أبو الغيط معه في ذكرياته وأسفاره، ويشاركنا الشهيق في ظل أبنائه الخضر، ثم يسكننا أجمل بيت من الشعر يحجزه لنا دو ًما بين كتاباته!
يكتب لأصدقائه وقرائه ومحبيه ضمن تدوينته الأخيرة ويخبرهم كيف لم يتقبل فو ًرا تكهنات الأطباء بقرب النهاية: (شعرت بضيق تنفس، وبداية تصاعد خفقات قلبي، وأنا أستوعب معنى
كلامه. كأنهم يزفون لي خبر رحيلي للمرة الثانية خلال أسبوعين.
نسيت النقاط التي كنت اتفقت مع إسراء أن نسأله عنها، وارتبكت فعجزت عن الوصول للملف الذي سجلتها به على هاتفي، فقط نظرت إلى إسراء دامعاً متسائلا، فوجدتها متماسكة، وواصلت الحديث معه عن تفاصيل الأيام القادمة.)
ثم يردف في مقطع لاحق: (كلانا نأمل في يقين أمي وإن كنا لا نجده. كما شرحت سالفاً فالمعجزة تظل أمراً بالغ الندرة،
وحتى الأديان لم تعد المؤمنين بالضرورة بالنصر والشفاء في الدنيا، بل يخاطب القرآن
الصحابة بوع ٍد مختلف تماما: “ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع”. كون أن أمي يمكنها جمع
ذلك مع تأكدها من حدوث المعجزة لي تحديداً بآلية “الدعاء اليقيني”، فهي قدرات أحب أن
أتخيلها، أحاولها، لكني أبعد ما أكون عنها.)
وكأنه يقول لنا أتفهم الجزع الذي قد يخالجكم، لأني شعرت بمثله، ثم يحاول التسرية عن نفسه وعنا وهو يتأمل معنى النصر، الذي قد يتحقق في جزء جديد لاحق، ولا ينبغي أن يكون قري ًبا دانيا في الدنيا، وهو يؤكد زمرته التي اختارها: المؤمنين.
لا أعلم لماذا تتطاير الآن في مخيلتي صو ًرا من فيلم “سويت نوفمبر” الذي كانت تحتضر بطلته في شهر نوفمبر بسبب السرطان أي ًضا، وتقرر وهي تقضي أيامها الأخيرة أن تستضيف البطل التائه في بيتها، عله يفهم الحياة ويثمنها. لم يكتف محمد أبو الغيط باستضافتنا في بيته، بل استضافنا جميعا في قلبه وبين سطوره. هربت بطلة الفيلم من حبيبها في آخر أيامها، كي لا
يراها في ضعفها ويظل يتذكرها في أحلى حالاتها. لكن بطلنا الحقيقي محمد أبو الغيط من علينا
بمشاركتنا ضعفه ولحظاته الأخيرة، لكننا من فرط ما مسنا من وهج إبداعه واتقاد معانيه؛ كدنا ننسى أنه يقول لنا ويكرر، أن الورم ينتشر، ووظائف الجسم تنهار رويدًا رو ًيدا! فكان كلما كشف عن تداعيه، تجلت لنا قوته. نعم، ربما كانت هذه هي المعجزة.
فديت ال ِعظام الثايرة ع المخابئ.. تحكيعن ِعظام…فيهمسربارئ ي َوصف ال ُمعافى ويرادف الخالق ِعظام وبارزين ف عيونا أشهاد ع اللحم الل حا ِرق.. نسيجه وجع ع الصامد المناضل.. إلل ِمنه اتبدَع وطن وقايم.. بعظام الجدع محاوطاه بتحميه.. كما الأكباد
هناك أي ًضا معجزته الحقيقية “يحيى محمد أبو الغيط ” عندما كتب عنه وله يقول: (كم أبهرتني يا بني منذ سنواتك الأولى. في لحظة ما من عامك الثاني انفجرت داخلي مشاعر الأبوة نحوك بلا حدود. أنبهر وأنا أرى معجزة تكوني تتكرر. هناك “محمد” آخر صغير أراه لكنه ليس أنا بالضبط، بل هو.)
ثم يكمل مخاط ًبا يحيى ومراهنًا على إنصات الجميع:
غنوتي عن معجزة.
أنا أصدق أن جدتك اطمئنت على إسراء في صورة ذلك الطائر يومها.
( ابني الحبيب..
وأنا أيضا لو غبت عنك يا بني بعد عشرين يوما أو شهراً أو عشرين عاماً فثق أني سأكون في
مكان ما أنظر إليك. لعلي في نسمة هواء أو تراكم قطرات الندى، أو في أصغر وردة بيضاء
لازلت أبكي لكن الحرقة أقل، دعوت الله مبتهلة أن يسامحني على غضبي، ويريني إشارة تهون
علي وتطمئن قلبي، فرأيت قاعة تكريم كبيرة محتشدة بجمهور واقف لا يكف عن التصفيق الحار،يقفمحمدأبوالغيطفيهامرتدًيا ُحلةفاخرةزرقاء-بدونربطةعنق-ووجههمشرق معافى، ظهره للقاعة ووجهه لدكتور أحمد خالد توفيق، يسلمان على بعضهما بحرارة، ويقول له د.أحمد مبتس ًما: أبدعت يا صديقي. ثم جلس كلاهما على المنصة وقبل أن يقولا أي شيئ شرعا في أكل أطباق من الحلوى أمامهما، وتبينت أنها كنافة بالبسبوسة! كان كل من في القاعة يضحكون بصوت مرتفع ومعهم محمد أبو الغيط.
تذكرني بأمك.)
أعرف أن حل ًما كهذا له العديد من التفسيرات المنطقية، كأن يكون نتيجةً ما قرأته على صفحات أصدقائه في رثائه وهم يوصوه بالسلام على دكتور أحمد، أو ما قرأته على صفحة محمد أبو الغيط نفسه عن دكتور أحمد خالد توفيق وعنونه:”أبانا الذي من طنطا”. وربما أكون متأثرة بمشهد تكريمه الأخير الذي انتفض فيه كل الصحفيون يحيون محمد أبو الغيط بحرارة، بعد أن أذيعت كلمته التي قال فيها:
(صحيح أن مشاكل الصحافة الأولى، هي عوامل خارج شخص الصحفي الفرد، لكن حديثي هنا
عن ما بيدنا؛ فليس مطلو ًبا من كل مواطن أن يكون بط ًلا أو أن يكون الأنجح عالم ًيا بمجال
تخصصه، بل مطلوب فقط أن يكون إنسانًا راض ًيا عن مواقفه، وعن موافقة ما يقدمه لضميره،
ولا يغير ذلك بالطبع من أولوية تأثيرات رأس المال والقوانين والسياسات الحكومية، فالقاعدة
هي: أنه لا تنهض الصحافة في أي بلد ولا يتقدم صحفيوها بغير حرية، كما لا تنهض النباتات
الخضراء التي أزرعها في حديقتي بغير شمس. )
أعي كل ذلك، لكني أعي أي ًضا أن من كانوا في القاعة لم يكونوا صحفيين وإعلاميين
بالضرورة، بل أكاد أجزم أني لمحت بينهم الشهيد محمد عبد الحميد الشهير بين أصدقائه ب
(كامبا) والذي استهل محمد أبو الغيط بصورته، صرخة أول تدوينة فجرت ضوءه :” الفقراء أولا…”
أعرُف أي ًضا أني عندما أردت سابقًا كتابة مقال عن أحمد خالد توفيق تخيلت حوا ًرا أقمته معه، ولم أهدى بحلم كهذا. وإذا كان لكابوس (ابتلاع الأشواك) -الذي رآه ً محمد أبو الغيط قبل تشخيص المرض، وكتب عنه وهو يعلن إصابته بالسرطان- فرصة في التأويل والتجسيد، فلم لا يكون قضم الحلوى في الحلم، حقًا في الاستبشار والتدوين.
أفقت من الحلم على صوت ضحكتي. تنهمر دموعي من جديد، لكنها -الحمد لله- بلا ُحرقة!
أدرك الآن: لامس القدر المعجزة؛ انتصرمحمد أبو الغيط ، أتم مهمة تدوين الألم وفك طلسمه.
انتصرت إرادته أمام كل جبروت الألم ونهشه. انتصر محمد أبو الغيط؛ واستطاع أن يقهر
الموت وهو يتقبله،غير مقبل عليه ولا هارب منه. وبينما يقبع جسده في مكان مظلم في لندن، أو
ربما كان مضيئًا دائ ًما، لا أعلم، لكني أعرف أنه ترك لنا إرثًا لا ينضب من الغرس الذي يلامس
فروعه السماء، وآلاف المقالات والعناوين والكتب التي ستكتب عنه.
أكمل الكتابة أملا في التعافي ولا أوقن صدقًا إن كنت أكتب وحدي، أو أن طاقة ما تُملي علي الآن الكلام. أضحك كلما تذكرت الحلم، وأتنفس كلما تذكرت قول محمد أبو الغيط؛ (أبانا الذي
في الضوء) وهو يكتب لابنه يحيى ولنا: (في تلك المساحة أعرف أنه ستظل تلك الطاقة من حبي
تحيط بك وبأمك سواء كنت أنظر إليكما بعيناي، أو أنظر إليكما بعيون كل ذلك الكون الفسيح
.الجميل.)